يعتبر محمد حمّاد، الشاهد الوحيد الباقي على قيد الحياة، على قصة اكتشاف مخطوطات البحر الميت في خربة قمران المطلة على البحر الميت، وهو الاكتشاف الأثرى الذي اعتبر واحدا من أهم الاكتشافات الأثرية من القرن العشرين، الذي من شأنه أن يعيد النظر في تاريخ البشرية المعروف، أو على الأقل فيما يتعلق بما يعرف الآن بالشرق العربي: أرض الديانات والرسل والملائكة..!، حسب التقديرات المتفائلة لذلك الكشف، الذي ما زال يثير الجدل حتى الآن.
وقبل ستين عاما تمكن حماد، مع رفيقه محمد الذيب، الذي توفي قبل سنوات في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، من العثور على المخطوطات التي ما زالت محل دراسة في أنحاء مختلفة من العالم، وسط اتهامات من باحثين مستقلين للدولة العبرية باحتكار ما لديها من مخطوطات والتلكؤ في الكشف عن مضامينها كاملة.
وفي حديث مع مؤسسة فلسطين للثقافة، يشعر حماد بالأسى الآن، أكثر من أي وقت مضى، لما يسميه اللامبالاة بشأن المخطوطات التي تضع حكومة الاحتلال يدها عليها، من قبل العالم العربي، ومن وسائل إعلامه، وهو الذي يستقبل بانتظام باحثين وصحافيين وإعلاميين أجانب ما زالت تشكل قصة المخطوطات محفزا للكتابة أو صنع أفلاما تسجيلية عنها.
وبعد الاحتلال عام 1967م، تحولت قمران، إلى معلم سياحي هام تحت السيطرة الصهيونية، ووضع المحتلون الجدد سيطرتهم على المتحف الفلسطيني بالقدس المعروف باسم (متحف روكفلر)، ونقلوا مخطوطات البحر الميت، وأثار أخرى هامة من هذا المتحف إلى متحف الكتاب في القدس الغربية، علما بان متحف روكفلر في القدس الشرقية ما زال تحت سيطرة الاحتلال أيضا.
وأسست سلطة الآثار الصهيونية في عام 1990، لجنة من العلماء لنشر نصوص المخطوطات برئاسة البروفيسور إيمانويل توف، من الجامعة العبرية بالقدس، وضمت في صفوفها العشرات من العلماء من مختلف أنحاء العالم، وأعلنت في عام 2001، أنها أكملت عملها، وتم الاحتفال بذلك في مقر رؤساء الكيان العبري، وبحضور الرئيس الصهيوني.
ولم يمنع ذلك من أن تظل المخطوطات حتى الآن مثار جدل واسع، يبرز بين كل سنة وأخرى، خصوصا وأن حكومات الاحتلال المتعاقبة متهمة من قبل البعض بعرقلة الكشف بشكل كامل عن مضمون المخطوطات.
وفي حين اعتبر باحثون ذلك، محاولة لإخفاء حقائق جديدة عن فترة نزول الكتاب المقدس والديانة المسيحية والتاريخ اليهودي في فلسطين، كان باحثون صهاينة يبررون ذلك بأن العمل في المخطوطات لم ينته بعد.
وعشية اتفاق أوسلو عام 1993، أطلقت حكومة الاحتلال حملة بحث واسعة في صحراء البحر الميت عن مخطوطات جديدة، وأسمت الحملة (البحث عن الدرج) أي المخطوطة أو الملف.
ونظمت خلال السنوات الماضية معارض في مختلف أنحاء العالم، تضمنت قطعا أثرية من التي تم العثور عليها في أثناء الحفريات التي لم تتوقف حتى الآن في خربة قمران، ومن بينها معرض مستمر في واشنطن منذ عدة سنوات.
وإذا كانت المخطوطات ما زالت تثير جدلا خصوصا حول ما يمكن أن تقدمه من إعادة النظر في تاريخ الأديان المعروف، فإنه غاب في حومة هذا الجدل الذي لا ينتهي حتى يبدأ، الظروف التي عاشها أفراد طائفة الاسينيين أصحاب المخطوطات في مجتمعهم الاشتراكي في تلك المنطقة المقفرة على ضفاف أخفض بحيرة في العالم.
ويقدر الآن للمتابعين معرفة بعض الأدوات التي استخدمها الاسينيون الذين انقطعوا للعلم وتحصيل المعرفة والكتابة التي وصلتنا على شكل مخطوطات من الجلود أو الصفائح النحاسية وغيرها، من خلال معرض تستضيفه مكتبة الكونغرس في واشنطن.
ويهدف المعرض الذي يضم قطعا من المخطوطات والأدوات التي عثر عليها أثناء البحث في قمران والكهوف المحيطة بها، إلى زيادة فهم الزوار للفترة المضطربة التي نسخت فيها المخطوطات.
ونظم المعرض بالتعاون مع سلطة الآثار الصهيونية، وافتتح بعد أن أعد له جيدا في حزيران (يونيو) 1993، ووضع إلى الشبكة العنكبوتية في نيسان (ابريل) 1996.
وفي حين يحظى المعرض باهتمام الباحثين من مختلف دول العالم وكذلك المتابعين والمهتمين، إلا انه لا يلاقي نفس الاهتمام من الباحثين العرب لأسباب غير مفهومة، مع أن الأمر يتعلق بفترة مهمة من تاريخ المنطقة، تأثيرها ما زال طاغيا حتى الان.
ويضم المعرض الذي يكشف عن جوانب من واقع مجتمع الاسينيين، جرار فخارية، قسم منها حفظ المخطوطات وسط تلك البيداء الجافة، حتى وصلتنا بفضل محمد الذيب ومحمد حماد.
وحين عرض مراسلنا على حماد صورا لنماذج الفخاريات من معرض مكتبة الكونغرس استطاع التعرف على بعضها والتأكيد على أنه عثر عليها في خربة قمران.
ويضم المعرض المثير منسوجات، عثر عليها في أحد كهوف قمران في ربيع (نيسان) 1949، وأثار وجود بعض هذه المنسوجات مخفية مع المخطوطات، التساؤلات لدى العلماء إذا كان الاسينيون استخدموها ليس فقط في اللباس وإنما أيضا ضمن تقاليد أخرى مثل طقوس الدفن.
وعثر أيضا على قطع أقمشة، غطيت بها الجرار، ونسجت بطريقة معينة دقيقة، وكذلك على سيور جلدية متعددة الأشكال، ومتعددة الاستخدام.
ومن الأدوات المعروضة قطع خشبية نادرة، وسهلت بعض السلطانيات، والصناديق، وإطارات المرايا، المصنوعة من الخشب على الدارسين الوقوف على أساليب مهنة النجارة القديمة.
ويتبين من خلال المعرض نوعية الأمشاط التي استخدمها الاسينيون، التي صممت لتصفيف الشعر بطريقة تضمن أيضا تنظيفه من أي أشياء غريبة، وتشبه شكل هذه الأمشاط مثيلاتها التي كانت شائعة في العالم العربي خصوصا في الأرياف حتى سنوات خلت.
وعثر على مصابيح في قمران، تشبه الأنواع التي عثر عليها في مواقع أخرى مثل ما يعرف بالحي اليهودي بالقدس القديمة، ويطلق على هذا النوع من المصابيح اسم (مصباح هيدريان) التي تعود لفترة الإمبراطور الروماني هيدريان، المؤثر في تاريخ القدس.
وعثر في أحد المصابيح على ألياف من النخيل شكلت فتيلته، وكأنه معد حديثا للإيقاد، ومن سعف النخيل صنع الاسينيون سلالا وحبالا، مستفيدين من تقنية الضفر الشائعة في العصر الروماني، وربما المستمر حتى الآن.
ويعتقد بأنه في أوقات الشدة تم استخدام الحصر المصنوعة من النخيل في تغليف بقايا الموتى، لإعادة دفنهم في منطقة مضطربة شهدت تمردات وثورات عديدة.
ومن المعروضات زوج صندل ظريف، يعتقد أنه من نوع كان شائعا في تلك الفترة، لأنه وجد مثله في مواقع أخرى في فلسطين مثل قلعة مسعدة.
ونعل الصندل مصنوع من ثلاث طبقات من الجلد، وشكله لا يختلف كثيرا عن أنواع ما زالت مستخدمة حتى الآن.
ويتضمن المعرض نماذج من عملات معدنية وفضية، وبعضها غير معروف إنه استخدم في قمران، مما جعل العلماء يعتقدون بأنه عندما كان ينضم أعضاء جدد لطائفة الاسينيين كانوا يسلمون ما معهم من نقود، التي تودع في خزينة عامة، وبعض الأموال عثر عليها تحت الأبواب، وهي ممارسة شائعة في العصور القديمة.
ويثير المعرض من جديد الألغاز عن طائفة الاسينيين التي قدمها العلماء كطائفة دينية متقشفة يعيش أفرادها بشكل جماعي، يأكلون الطعام المعد من مطبخ الطائفة، ويعملون في نسخ المخطوطات في قاعة المكتبة.
وحسب بعض التقديرات فان الأدوات التي عثر عليها في الموقع ربما تناقض نظرية التقشف عن حياة الاسينيين، ولكن تقديرات أخرى ترى انه لم يكن بإمكان أفراد الطائفة العيش كجماعة منبوذة دينيا منقطعة للكتابة والتأليف دون أن يكون لديها احتياطا ماليا وفيرا.
وبمناسبة الذكرى الستين لاكتشاف المخطوطات، تعود التكهنات والأسئلة لتثار من جديد، حول طائفة الاسينيين، بينما قررت سلطة الآثار الصهيونية تشكيل لجنة دولية، لحفظ المخطوطات، بأنسب طرق الترقيم والحفظ، مكونة من عشرة خبراء عالميين، من مختلف ميادين التصوير الفوتوغرافي، والتكنولوجيات الرقمية، وإدارة مشاريع قواعد البيانات.
وبهذه المناسبة الهامة، عقد في القدس، مؤتمرا في الفترة ما بين 4-7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، حول هذه المواضيع، ونشرت سلطة الآثار الصهيونية نتائج الحفريات في قمران خلال الأعوام 1993-2004، مع الخرائط والصور.
ومقابل هذا الاهتمام الصهيوني، فإن النظر للمخطوطات من قبل أصحابها الأصليين الفلسطينيين والعرب، ما زال يكتنفه عدم الاهتمام والغفلة، منذ أن تم الكشف عنها، في الأرض الفلسطينية.
ولم تبادر أية جهة فلسطينية، خلال المفاوضات الطويلة مع الصهاينة، الى المطالبة بالمخطوطات، وكذلك لم تفعل الحكومة الأردنية، التي كانت القدس والمتحف الفلسطيني تحت سيطرتها لدى وقوع الاحتلال عام 1967، ووضع الاحتلال يدها على المخطوطات.
أحدث التعليقات