قصص


*منشورات اوغاريت (تلفاكس: 2967027)

انثيالات الحنين والأسى/ أسامة العيسة
التعليلة القروية حينما تصبح شكلاً فنياً

بقلم محمود شقير
قصص هذه الـمجموعة أقرب ما تكون إلى الشكل التقليدي للقصة القصيرة. الشكل الذي يحتوي على حدث وعلى حكاية أو حكايات، ويعنى ببداية القصة وبحبكتها وبتقديم أكبر قدر ممكن من ملامح الشخوص، وبالحرص على لـملـمة خيوط القصة نحو ذروة لا تلبث أن تأخذنا إلى نهاية مقنعة. واللغة في هذه القصص أقرب ما تكون إلى اللغة الإخبارية الـمعنية بتوصيل أكبر قدر ممكن من التفاصيل الـمتعلقة بالنضال الوطني الفلسطيني.
ويبدو لي أن مضامين القصص التي كتبها أسامة العيسة في الفترة التي سبقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى وفي فترة الانتفاضة بالذات، هي التي أملت عليه الشكل الفني لقصصه. فهو معني بكتابة قصة قصيرة ملتزمة برؤية تقدمية معادية للاحتلال، ناقدة لعيوب الـمجتمع. قصة قصيرة بوسعها الوصول إلى أكبر قطاع ممكن من القراء العاديين الذين هم موضوع القصص ومادتها. وهو حينما ينطلق أساساً من الشكل التقليدي الذي أرسته القصة القصيرة، إنما يقدم تنويعاته الخاصة على هذا الشكل الفني، فلا يبقى أسير تصوراته الأولى ذات الـمنحى الرومانسي. نحن هنا أمام قصص واقعية ناقدة، مكتوبة بلغة متقنة في السرد مطعمة بشيء من العامية في الحوار، ولا تخلو من السخرية بين الحين والآخر حتى في أشد الـمواقف استدعاء للجد. وهي لذلك قصص متخلصة من الـميلودراما ومن الـمبالغات ذات النزعة العاطفية، بحيث يبدو الراوي كما لو أنه يعرض مادته الحكائية بحياد تام، وهو ليس محايداً بطبيعة الحال.
ولأن أغلب هذه القصص التي اشتملت عليها الـمجموعة منتزعة من بيئة الـمخيم الفلسطيني، فهي عابقة بروح شعبية نابعة من ثقافة زراعية قروية، حيث الحكايات والنوادر والـمقالب والـمفاجآت، وحيث الـمفردات الـمنتزعة من صلب هذه البيئة، التي تحضر في القصص، فتحد من تسلط الكتابة الأدبية عليها، وتجعلها قريبة من وجدان القراء البسطاء، أبناء تلك البيئة نفسها، وحيث الشخوص التي اعتنى الكاتب بتصوير ما لديها من مزايا وصفات ومن أمزجة ومغامرات، ما جعلها أقرب إلى شخوص الحكايات الشعبية التي يتعلق بها السامعون وهم يتابعون ما تتعرض له هذه الشخوص من مآزق، وما تجترحه من مواقف قادرة على تحدي الـمآزق، والتخلص من الأخطار في أحرج اللحظات.
ولقد أضفى تكرار ظهور بعض الشخصيات في غير قصة من قصص الـمجموعة، طابعاً محبباً لجهة تعميق حضور الشخصيات في وجدان الـمتلقي، ولجهة تناغم القصص في ما بينها، كما لو أنها فصول في رواية يجري تتابعها من زوايا مختلفة لكي تكتمل على نحو ما في نهاية الـمطاف. إن تكرار شخصيات أبي تيسير، والحاجة نفيسة، وباسل أعطى انطباعاً مريحاً انعكس إيجاباً على إيقاع هذه الـمجموعة القصصية التي لـم تخل من نواقص وهنات.
من هذه النواقص والهنات، اعتماد الكاتب على التقاط بعض حكايات وقعت في الواقع الفعلي (طوشة الشلن مثلاً) ص5، أو بعض شخصيات واقعية معروفة ( الطبيب يعقوب زيادين مثلاً، والكاتب لـم يقم بذكر اسمه وإنما أوحى بالاسم في شكل أو آخر)، وإعادة سرد هذه الحكايات وتوظيفها والنجاح حيناً وعدم النجاح حيناً آخر. وفي ما يتعلق بشخصية الطبيب، فقد اقتنعت بطريقة تقديم هذه الشخصية لأنني أعرف الطبيب شخصياً، غير أنني لست متأكداً إلى أي حد استطاع الكاتب أن يوصل الشخصية إلى قارئ لا يعرف هذا الطبيب، وليست لديه فكرة عن نضاله وتاريخه.
كذلك، فإن تتابع الحكايات في القصة الواحدة، قد يجعل شكل القصة فضفاضاً بحيث يصبح بالإمكان إضافة حكايات أخرى أو حذف حكايات،وهو ما يعني أن بنية القصة ليست محكمة على النحو الـمطلوب، بحيث لا يمكن الإضافة إليها أو الحذف منها بأي حال.
وقد لاحظت شيئاً من التعقيد اللفظي في بدايات عدد من القصص. كان دخول الكاتب إلى مادة قصصه لا يبدأ إلا بعد مقدمة لغوية مغرقة في الذهنية، ومن ذلك على سبيل الـمثال ما ورد في مقدمة قصة “طوشة الشلن”: “حين يلتقي الرائي الغريب عن الـمخيم، مصادفة، وجهاً لوجه، بالحاجة نفيسة وقت تجلي غضبتها، تصطدم عيناه بجسدها الناحل الـمقوس الـمستور بثوب عتيق، وخرقة انحسرت عن جزء كبير من رأسها الشائب الـمحنى، والتحفز يطبع قسمات وجهها الشائهة…”ص5، ويستمر الوصف على هذه الشاكلة، ولن تكتمل هذه الجمل الـمتلاحقة إلا بعد استطراد طويل لا يصلح بداية لقصة ناجحة.
التعقيد اللفظي نفسه نجده في قصة “خبر العنتري”. تبدأ القصة على النحو التالي: “هي قعدات الشموس الشاحبة حين يطيل تموز ضمورها، قبل أن تخر ميتة وراء بيوت اللاجئين، وتستبين ببطء مصابيح السماء”ص13 . والتعقيد اللفظي نفسه نعثر عليه في قصة “انثيالات الحنين والأسى”، أو هي البداية الـمغرقة في الأدب واللغة على نحو يزيد عن حاجة القصة الطالعة من بيئة شعبية: “عبق مساء بري بعيد، لـم يعشه أولاد الـمخيم. نداوة جنوب وعطر البرتقال: طعم قعدات التحسيني، مترعات بعوالـم الشوق الـمضبب…”ص51
ولعل هذه القصة “انثيالات الحنين والأسى” ص51، أن تكون من أجمل قصص الـمجموعة، رغم بعض الهبوط الذي شاب الشخصية الرئيسة فيها حينما جرى الحديث عن الشعر وترديد بعض أبيات ساذجة منه. يستمد السرد حيويته في هذه القصة من الروح الشعبية ومن حكاياتها ومفرداتها التي تصوغ بها هذه الحكايات، وتجعلها موضوع القعدة أو التعليلة أو السهرة الـمعروفة في البيئة الشعبية الفلسطينية. ولعل تأثر أسامة العيسة بأسلوب سرد الحكايات في التعليلة، وتحويله إلى شكل فني في غير قصة من قصصه، أن يكون تنويعاً ناجحاً على القصة السردية ذات الـمنحى التقليدي، ولعل سرد الحكايات الـمتتابعة وتناسلها من بعضها بعضاً هو ما يشكل بنية القصة، ويجعلها متعددة الأبعاد، إذ نجد الهزل والجد، والسخرية والحنين، ونقد بعض الظواهر السياسية والاجتماعية، وأخبار النساء والحديث عن الجنس تلـميحاً وتصريحاً (وهو ما يلزم لتلطيف جو القعدة ومواصلة السمر)، وسرد بعض وقائع التاريخ الفلسطيني عبر التداعيات التي تمر في ذهن بطل القصة، والتطرق إلى الـمعاناة على أيدي جنود الاحتلال، تلك الـمعاناة التي وردت في القصة على هيئة الـمضحك الـمبكي، حينما كان أبو تيسير يركض خلف باسل لـمعاقبته جراء سخريته منه، في مشهد هزلي لا يلبث أن يتحول إلى مشهد مفجع، بعد أن يقبض عليهما الجنود جراء وجود علـم فلسطيني ثبته شباب الانتفاضة على أحد الأعمدة ثم اختفوا، وكان على هذين الاثنين أن يتحملا تبعة ذلك، فيقتادهما الجنود إلى السجن!

*قريبا:

نهارات للازقة والنجوم البعيدة (رواية).

أضف تعليق